مشقة الصبر على النفس
إن مشقة الصبر على النفس تعود إلى قوة الداعي لهذا الفعل و سهولته على العبد ، فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق شيء على الصابر ، و إذا فقدا معاً سهل الصبر عنه ، و إن وجد أحدهما و فُقد الآخر سهل الصبر من وجهة و صَعُبَ من وجه .
فمن لا داعي له إلى القتل و السرقة و شرب المسكر أو أنواع الفواحش أو الانتقام لا يعتبر كظماً لعدم وجود هذا الداعي ؛ فكان صبره عنه من أيسر شيء و أسهله ، و أما من اشتد داعيه إلى ذلك و سَهُلَ عليه فعله فَصبر عنه و كظمه أشق شيء عليه ، فكان صبر السلطان عن الظلم و صبر الشاب عن الفاحشة و صبر الغني عن تناول اللذات و الشهوات عند الله بمكان ، فمن ملك المقدرة على الفعل و وُجد داعيه لهذا الفعل و لم يفعل خشية لله عزّ و جل هو الصبر الذي نحن بصدده ، ففي المسند عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال ( عجب ربك من شاب ليست له صبوه )
و غير هذا الشاب أنواع من الذين وجد عندهم الداعي للفعل و لم يفعلوا طاعة لله و خشية منه ، ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال ( سبعة يظلهم الله بظله يوم لا يوجد ظل إلا ظله : الأمام العادل ، و شاب نشأ في عبادة ربه ، و رجل قلبه معلق بالمسجد ، و رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه و تفرقا عليه ، و رجل طلبته امرأة ذات منصب و جمال فقال إني أخاف الله ، و رجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، و رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) ؛ فلقد استحق المذكورون في الحديث أن يظلهم الله في ظل عرشه لكمال صبرهم و مشقته عليهم لوجود داعِ الفعل عندهم ، فإن صبر الأمام المتسلط على العدل في قسمه و حكمه و في رضاه و غضبه ، و كذلك الشاب في طاعته لربه و مخالفته لداعي الهوى و كل ذلك من كتمان العبادة و غيرها من أشق الصبر على الناس .
كل حلمٍ أتى بغير اقتدار == حجة لاجئ إليها اللئام
إن مشقة الصبر و سهولته تعود لوجود الداعي لهذا الفعل ؛ فصبر الشباب عن المعصية و الفاحشة أشق بكثير من صبر الشيخ ، فكما أن أجر هذا الشاب عظيم فإن عقوبته الشيخ الزاني و الملك الكذاب و الفقير المختال عظيمة لسهولة صبرهم عن هذه الأفعال لضعف دواعيها عندهم ، فكان تركهم الصبر عنها مع سهولته عليهم هو الذي شدد عليهم العذاب ، ففي الحديث أن أحمد بن حنبل قد روى عن أبي هريرة قال .. قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ( عُرِضَ عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة و أول ثلاثة يدخلون النار ، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد و عيد مملوك لم يشغله رق الدنيا عن طاعة ربه، و فقير متعفف ذو عيال ، و أما أول ثلاثة يدخلون النار فأمير متسلط و ذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله في ماله و فقير فخور ) .
إن الصبر عن معاصي اللسان و الفرج من أصعب أنواع الصبر لشدةِ الداعي إليهما و سهولتهما ، فإن الغيبة و النميمة و المراء و الثناء و الكذب ، و الطعن فيمن نبغضه و مدح من نحبه و مثلها كثير فإن حركة اللسان سهلة و ميسرة فيضعف الصبر عند المرء عن إمساك لسانه و لهذا قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لمعاذ ( امسك عليك لسانك ) ، فقال : و إنّا لمواخذون بما نتكلم به ..؟؟؟ فقال ( وهل يُكَبُ الناس في النار على مناخرهم إلا حصاد ألسنتهم ) أخرجه الترمذي ، و لاسيما إذا صارت معاصي اللسان معتاد العبد عليها و تدخل ضمن تسليته و ترفيهه عن نفسه فإنه يعزّ عليه الصبر عنها .
فربما تجد من يتورع عن الدقائق من الحرام أو القطرة من الخمر و مثل رأس الإبرة من النجاسة و يصوم النهار و يقوم الليل و يطلق لسانه في الغيبة و النميمة و التفكه في أعراض الخلق ، و من ذلك أن رجلاً سأل عبد الله بن عمر عن دم البعوض فقال : انظروا إلى هؤلاء يسألوني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ؛ فالمقصود أن اختلاف شدةِ الصبر في أنواع المعاصي و آحادها يكون باختلاف داعيه إلى تلك المعصية في قوتها و ضعفها .
إن الصبر هو أن توجد القدرة على الفعل مع وجود الداعي له و يكون الامتناع عن الفعل لله تعالى و ليس لأجل غاية أخرى أو أمرٍ معيّن ، و هو أيضاً في المقابل القيام بالفعل مع وجود داعي الهوى و يقوم العبد بالفعل لله تعالى بغض النظر عن أي أمرٍ آخر سواء أكان ربحاً أم خسارة و عدم نظر إلى مآلات الأفعال ، فالفعل الذي أمرنا ربنا عزّ و جل بتركه نتركه طاعة لله تعالى مع وجود داعي الهوى لفعله ، و الأمر الذي أمرنا ربنا عزّ و جل بفعله نفعله طاعة لله عزّ و جل مع وجود داعي الهوى بتركه