2 ـ الأصول الفلسفية للتداولية :
لقد سبق لي وأن قلت بأن "وستين" (1911 ـ 1961) وتلميذه "سيرل" (1932) ، هما اللذان أحرزا قصب السبق في وضع أساس بناء التداولية في الحقل الفلسفي ، وخاصة في فلسفة اللغة المستعملة (العادية) . فهما اللذان ابتكرا متصور "العمل اللغوي" انطلاقاً من نظرة المنطق التحليلي ، الذي يوافق طبيعة اختصاصهما . ففي فترة الستينيات أولى الفلاسفة كبير عناية في دراساتهم الأدبية إلى التأثيرات الجملية للخطاب ، في حين نجد "أوستين" ـ آنذاك ـ كان أول من بعث نظرية "الأعمال اللغوية" .
وما ينبغي ذكره في هذا المجال ، هو أن اهتمام الفلسفة باللغة واقع منذ أمد بعيد ، الأمر الذي جعل كثيرا من النقاد يعتبرون البلاغيين القدماء أقرب من غرهم إلى المنهج التداولي ، لأن اهتمامهم انصب في حقل البلاغة على البحث في العلائق القائمة بين اللغة والمنطق ، وبالتحديد دراسة اللغة الحجاجية وتأثيرات الخطاب في السامعين .
وهذا بالفعل ما تتسم به البلاغة منذ القديم بدء بـ"أفلاطون"و"أرسطو" ، وصولاً إلى "سِناك" و"شيشرون" و"كونتليان" . إذ كان هدف البلاغة قائما على معرفة "الانفعالات"و"الأهواء" . من ذلك ما نجده عند "أرسطو" ، مثلا ، حينما حاول التفريق بين نمطين من الخطاب ، فدعا أحدهما "الخطاب الجدلي" الذي يتوجه إلى شخص واحد مجرد ، ويختزل في وضعية السنن اللساني . وسمى الثاني "القول الخطبي" والذي يتوجه إلى مخاطب واقعي يتمتع بموهبة الجدل والمنافحة ، ويمتلك أهواء وعادات ثقافية . ثم عمد إلى الأقوال الخطابية هذه فقسمها إلى ثلاثة أجناس بحسب معيار العلاقة بين القول والمستمع بغض النظر عن مضمونه، وهي :
1 ـ جنس مشاجري: وهو الجنس الذي يعرّف بكونه يتضمن أحكاماً على الأعمال المنقضية .
2 ـ جنس منافري : يدين أو يرفع شأن الأعمال التي تكون بصدد الوقوع .
3 ـ جنس مشاوري : يقترح حلولاً يبقى تحققها رهين الإمكان إذ جهتها استقبالية أساساً .
والذي دفعني لأن أذكر كل هذه الأعمال اللغوية المميزة ، لأنها هي التي كانت محل اشتغال كل من "أوستين"و"سيرل" .
فالخطابة عند "أرسطو" أداة مقالية للتأثير تتجلى في الخطاب ، في حين هي عند "أفلاطون" وسيلة واقية ذات هدف أخلاقي . والخطيب الحاذق في نظر "أرسطو" هو ذاك الذي يتمثل الحضور النقدي للسامع ، حتى وإن توارى ذلك الحضور وراء حوار باطني ، وقد تسرّب هذا الفهم للحوار إلى التداولية الحديثة .
ولقد ظل المنهج النقدي الأرسطي في الخطابة أو المنطق مسيطراً حينا من الدهر على الفكر الغربي إلى غاية التاسع عشر ، بل وتواصل تأثيره في الدراسات اللسانية إلى يومنا هذا . بدليل أننا قد نعثر على إحالات كثيرة على "أرسطو" في مقاربة اللغة والكلام والنصوص التي صدرت عن المدرسة الفرنسية خاصة ، إذ نجد أن في الكثير من دراساتها تعتمد على المنهج الاستنتاجي ، وهو نهج منطقي هيمن بواسطة طرائقه الشكلية والمعيارية .
وبهذا فقد غدت الخطابة عند "أرسطو" الدعامة الأساسية للنظرية النقدية في الأدب والنقد المسماة "الشكلانية" . والتي تعتبر الفن نتاج التطبيق الصارم للطرائق الشكلية ، وهو ينزع إلى نوع من الشعرية التي أسسها "جاكبسون" . وقد عادت التداولية بعد فوات مرحلة مؤسسيْها "أوستين"و"سيرل" إلى التحليل الحجاجي خاصة مع لسانيين فرنسيين على شاكلة : "أزفالد ديكرو" ، و"كربرات أوركيوني" .
إن الحديث عن "النظرية التواصلية" يفرض علينا أن نذكر مؤسسها البارز"فان ديجك" ، الذي ÷ وضع تخطيطا من ناحية البرنامج للذرائعية الأدبية بوصفها مكملا لا فكاك عنه نظرية النص ×([18]) . ومنذ العام 1975 يعتري تحول على توجه "ديجك" ، إذ تحول عن علم الدلالة إلى نظرية أدبية عامة ÷ تشتمل على نظرية للنصوص الأدبية ونظرية للتواصل الأدبي ×([19]) . ومنذ ذلك الوقت تغيرت الرؤية إلى أدبية النص ، فبعدما كان ÷ الاعتراف بما هو أدبي يتحقق بواسطة الخصائص البنيوية وجملة الملامح اللفظية ، أصبحت الأدبية تتحدد من خلال الاعتراف بإنتاج معين وخاص ، واستقبال خاص أيضاً ×([20]) . وعليه فقد تدرجت التداولية في مدارج التطور إلى أن ÷ أصبحت في مراحل متأخرة جدا نظرية للسياقات ، تبحث في سياق الإنتاج والاستقبال ، ثم إلى نظرية في الأفعال الكلامية ×([21]) ، وقد تكون هناك مراحل أخرى ستعرفها التداولية مستقبلا .
·عالم أمريكي ، حاصل على شهادات عليا في الكيمياء والفيزياء والرياضيات . عمل سنة 1860 في مصلحة "الجيوديزيا"(علم من علوم الأرض) . درّس بجامعة هارفارد ، ثم بجامعة هوبكينز. ورغم علمه الكبير وشهاداته العليا ، لم يحصل على منصب قار في الجامعات التي عمل بها ! بسبب مواقفه ومزاجه الصعب . فعرف الجوع والفقر وخيبات الأمل ، واضطر إلى بيع مكتبته القديمة التي كان يعتز بها كثيرا (حوالي 295 كتابا) باعها بثمن بخس (550 دولارا فقط !) . وبعد وفاته ينعت "بورس" بأنه أكثر فلاسفة أمريكا المعاصرين علما ! .
المصادر:
[1] ـ سماح رافع ، المذاهب الفكرية المعاصرة ، ص 49 ـ 52 .
··ج . أوستين (1911ـ1960) : فيلسوف إنجليزي ، شغل منصب أستاذ في فلسفة الأخلاق بجامعة أكسفورد . ويعتبر المؤسس الأول لتداولية أفعال الكلام ، هذه النظرية حولت نظرة الدراسات اللسانية السابقة . كتابه الوحيد الذي نشره له تلامذته، ومنهم "ج . سيرل" بعد وفاته هو : كيف نصنع الأشياء بالكلمات ؟ (How to do things with words?) ويشتمل على جملة من المحاضرات التي ألقاها على طلبته في جامعة أكسفورد والجامعات الأمريكية .
[2] ـ مسعود صحراوي ، التداولية عند العلماء العرب دراسة تداولية لظاهرة "الأفعال الكلامية" في التراث اللساني العربي ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت، لبنان ، ط2005 ،ص 05.
[3] ـ مسعود صحراوي ، التداولية عند العلماء العرب، مرجع سابق ، ص 16 .
[4]ـ حسن يوسفي ، مقالة بعنوان : المسرح والتداولية .
· ك.ك.أوركيوني ابتدأ مشوارها العلمي من دراستها في مدرسة دار المعلمين العليا ، ثم شغلت منصب أستاذة مبرزة . تحصلت على شهادة الدكتوراه في اللسانيات . شغلت منصب أستاذة بجامعة ليون الفرنسية . من كتبها : L'implicite,Les interactions verbales , La connotation …. .
[5] ـ Armengaud Françoise , La pragmatique que – sais – je ? PUF , 1985 , P 09 .
[6] ـ IBID . P 09 – 10 .
[7] ـ على آيت أوشان ، السياق والنص الشعري من البنية إلى القراءة، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ، المغرب ، ط1ـ1421هـ /2000، ص 56 ـ 57 .
[8] ـ تكامل المعارف : اللسانيات والمنطق ، حوار مع د/طه عبد الرحمن ، دراسات سيميائية لسانية أدبية ، العدد الثاني ، 1987 ـ 1988 ، المغرب .
[9] ـ مجلة الوصل ، معهد اللغة والأدب العربي ، جامعة تلمسان ، العدد الأول، جانفي 1994 ، نظرية المقاصد بين حازم ونظرية الأفعال اللغوية المعاصرة ، محمد أديوان ، جامعة الرباط ، كلية الآداب ، ص 25 .
· جون سيرل : فيلسوف أمريكي معاصر ، وهو أحد مؤسسي التداولية ، ينتمي إلى تيار الفلسفة الحديثة التي طورها "أوستين" ، درس بجامعة كاليفورنيا . ويطمح إلى تصحيح الكثير من المفاهيم السابقة من مؤلفاته : Les actes de parole indirects , Sens et expression و "العقل واللغة والمجتمع : الفلسفة في العام الواقعي" تر : سعيد الغانمي . "أفعال الكلام" ، "التعبير والمعنى" ، "القصدية" .
[10] ـ ميجان الرويلي وسعد البازعي ، دليل الناقد الأدبي ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، المغرب ، ط3/2000 ، ص 169 .
[11] ـ م ن ، ص ن .
[12] ـ ميجان الرويلي وسعد البازعي ، دليل الناقد الأدبي ، م س ، ص 169 .
[13] ـ محمد الحناش ، الأساس المعرفي لمنظومة الإبداع (مقاربة لسانية ـ تداولية) ، مجلة التواصل اللساني ، المجلد العاشر ، العددان 1 ـ 2 / 2001 ، ص 73 ـ 97 .
[14] ـ عادل الثامري ، التداولية واللسانيات ، مجلة دروب مقال في 19 /5/ 2006 . الموقع على الإنترنت
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] .
· التداولية : ترجمة للمصطلحين : الإنجليزي Pragmaticsبمعنى هذا الذهب اللغوي ، التواصلي الجديد... والمصطلح الفرنسي La Pragmatique بنفس المعنى . وليس ترجمة لمصطلح Le Pragmatisme الفرنسي . لأن هذا الأخير يعني "الفلسفة النفعية الذرائعية" . أم الأول فيراد به هذا العلم التواصلي الجديد الذي يفسر كثرا من الظواهر اللغوية كما أشرنا . ولذلك لا نتفق مع الباحثين العرب الذين ترجموا مصطلح La Pragmatique / Pragmatics بـ : "الذرائعية" أو غيرها من المصطلحات المتحاقلة معها . عن م. صحراوي ، التداولية عند العلماء العرب، م س ، الهامش ، ص 15 .
·· اسم Peirce يكتب وينطق بالعربية "بورس". جاء هذا التوضيح في كتاب"السيميائيات والتأويل مدخل لسيميائيات ش.س.بورس" لـ سعيد بنكراد ص 11، وكتب أخرى مدونة على ص 11 و 12 من نفس الكتاب .
[15] ـ ينظر : د/ميجان الرويلي ود/سعد البازعي ، في : دليل الناقد الأدبي ، م س ، ص 167 .
· الإشاريات Déictiques : وهي الحركات التي تدل بواسطتها على شيء ، موضوع ما .وهذه الحركة لها علاقة حقيقية بالموضوع الشيء . وهي تشكل جزء من المرجعيات Deixis ، لأنها لا تشير إلا بوجود مرجع ما .
[16] ـ فرانسواز أرمينكو ، المقاربة التداولية ، ترجمة : سعيد علوش ، مركز الإنماء القومي ، ص 96 .
[17] ـ م ن ص 98 .
[18] ـ خوسيه ماريا بوثويلو إيقانكوس ، ترجمة حامد أبو حمد ، مكتبة غريب ، سلسلة الدراسات النقدية ، القاهرة ، ص 76 .
[19] ـ م ن ، ص ن .
[20] ـ راضية خفيف بوبكري ، التداولية وتحليل الخطاب الأدبي مقاربة نظرية ، مجلة الموقف الأدبي ، شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق ، العدد 399 تموز/2004 ، ص 6 .
[21] ـ م ن ، ص ن .