بسم الله الرحمن الرحيم
مسائل في علم الجدل
قال عبد الرحمن:
الحمد لله بما أنعم على الإسلام وأهله , وصل اللهم على محمد وآله .
أما بعد :
فإن الذب عما يعتقده الواحد منا حقا واجبٌ , لما يؤدي إليه ذلك من المصالح الدينية , تعقبها مصالح دنيوية مشاهدةٌ .. إنما الحرام هو بعض أنماط هذا الدفاع التي لاترضى !..
وصور الدفاع عن الآراء المحمودة لا تعدُّ ولا تحصى , وقد كانت -فيما سلف من الأيام- المناظرة أقوى هذه الوسائل , لكننا اليوم في زمن الدعاية الإعلامية , ومن يحسن هذه الصنعة فاشهد لما يُرَوجه بالإزدهار.
على أن المناظرة لم تفقد بريقها إلى اليوم , لما فيها من قطعٍ للخصوم يُشعر المتابعَ بقطع للحجة أيضا ! ومعلوم أن التلازم غير مشروط , لكن ضحالة الفكر المنهجي – ولا أقول المعلومات- يؤدي لمثل هذا وأكثر.
والمناظرة هي الجدل على رأي , وفُرق بينهما , ونحن لا نتماحك هنا في الألفاظ , وهذا من فضل الله .
واعلم أن أصحاب هذه الصناعة قد اختلفوا في حدها –على عادتهم- , فإن شئت الوقوف على ما سطروه فلك أن تراجع أول كتاب "الجذل في علم الجدل" لنجم الدين الطوفي أو كتب المنطق كالتجريد للنصير الطوسي أو غيره .
*قال الطوسي : "الجدل صناعة علمية يقتدر معها على إقامة الحجة من المقدمات المسلّمة على أي مطلوب يراد" .
*وقال الطوفي : " قانون صناعي يعرف أحوال المباحث من الخطأ والصواب على وجه يدفع عن نفس الناظر والمناظر الشك والإرتياب".
قلتُ : فهو بهذا الإعتبار علم شريف القدر عظيم النفع , غايته إثبات صحة المعتقدات والآراء والسعي إلى إبطال ما يعارضها ؛ وقد اهتم به علماء الإسلام على مر الدهور , ولم يطعن فيه إلا أغمار من أبناء القرن الواحد والعشرين[وهم بعض من ينتسب إلى السلفية] ممن لم يعرف من هذا الفن إلا اسمه دون حقيقته , وعرف أن الجدال في الدين ممنوع فألصق هذا بذاك وطلع علينا بمذهب ممسوخ لا تعرفُ كيف تكنس ذهنه من هذه الفكرة العجيبة .
ولستُ بحاجة إلى الإستكثار من الكلام هنا فإن الشروع فيه بعد التحقيقات الحزمية الشريفة –مطلع كتاب الإحكام- هذر لا معنى له , فمن شاء راجع الكتاب , ومن لم يشأ لخصومة بينه وبين ابن حزم فمالنا عليه من سبيل : وصور الهوى خفية لا تدرك وهذه منها.
على أننا لا نقطع رغبتنا في إيصال الحق إليه فنرشده إلى الباب إلى الأول من كتاب الطوفي السابق ذكره .
ومادة هذا العلم : فن الأصول , يقول الطوفي : "فالجدل إذن علم أصول فقه خاص" ومعلوم أن موضوعه الأدلة -بصفة عامة- , والأصول هنا معنى عام للقواعد التي تضبط الإستدلال فهو ليس خاصا بالفقه ولا السنة ولا الفلسفة , بل هو علم يشملهم جميعا : وهذا هو العلم الذي يدعو إليه محققو الأصول من أبناء هذا الزمان.
ذلك أن الفكر المنهجي له قاعدة يسير عليها في كل علم ييمم وجهه إليه , وطرق الفهم الخاصة بالفقه هي نفسها الخاصة بالسنة (=العقيدة) وما سواها من الفنون الدينية والدنيوية ؛ لكننا نقر أن بعض القواعد تصلح في فن ولا تصلح في غيره لكن هذ الإعتراض لا يصلح للطعن في المبدأ العام .
إذا عُلم هذا فينبغي الإهتمام بكتب تخريج الفروع على الأصول , فإنها جد نافعة , ومن اكتفى بكتاب مفتاح الوصول في بناء الفروع على الأصول " لأبي عبد الله التلمساني كفاه وأغناه؛ فإنه –تالله- نفيس في بابه. وكذلك كتاب "الكاشف عن أصول الدلائل وفصول العلل" للعلامة الرازي.
فعلم الأصول علم ضروري كما ترى , ولا يُتصور طالب علم يظل جاهلا بمسائل الفن ثم ينفي حجية كذا ويثبت حجية ذاك , ويرجح –في الفقه- كذا ويمنع كذا..
أما فائدته فقد أشرنا إليها في تضاعيف ماسبق من كلام : وهي رجوع أحد المتجادلين إلى الحق , وكشف الحجج الزائفة (=الشبهات).
وقد قال أبو الوليد الباجي في "المنهاج في ترتيب الحجاج" : (وهذا العلم من أرفع قدرا وأرفعها شأنا , لأنه السبيل إلى معرفة الإستدلال , وتمييز الحق من المحال , ولولا تصحيح الوضع في الجدل لما قامت حجة ولا اتضحت محجة" .
[color="blue"]وينبغي الإنتباه إلى أربعة أمورٍ :[/COLOR
]أما الأول : فإننا نرى أهل الفن يقولون عن مناظرهم "خصما" ولا يعنون به : العدو ما شاكلها من ألفاظ , فالظن بهم أنهم معتقدون لقاعدة : الإختلاف لا يفسد للود قضية" , لكنهم يعنون بها "المقابل لك بالحجة" , فكل من قابلك بالحجة فهو خصمك . هذا هو المعنى لاغير.
أما الثانية : وهي ما قاله الإمام أبو محمد بن حزم في كتابه الجليل "التقريب" : (ليس علينا قسر الالسنة إلى الاقرار بالحق لكن علينا قسر النفوس إلى الاقرار به وقطع الالسنة عن المعارضة الصحيحة لعدم وجودها).
أما الثالثة : فإنه ربما قيل فيك معاند – مبطل- وما ماثلها من مخزون الألفاظ هذا , فحقك أن لا تلتفت له , وأصخ السمع للإمام الأجل حين يقول –رحمات الرب عليه- في "التقريب لحد المنطق" : (هذا ولا تقنع إلا بحقيقة الظفر ولا تبال أن قيل عنك انك مبطل فلك فيمن نسب إليه ذلك من المحققين أكرم أسوة من الانبياء عليهم السلام ومن دونهم. نعم حتى إن كثيرا منهم قتل دفعا لحقه ونسبا للباطل إليه)
أما الرابعة : فكلام ابن حزم فيها أبلغ من كل كلام , يقول رحمه الله : ( ولا تستوحش مع الحق إلى احد فمن كان معه الحق فالخالق تعالى معه. ولا تبال بكثرة خصومك ولا بقدم أزمانهم ولا بتعظيم الناس إياهم ولا بعدتهم فالحق أكثر منهم وأقدم وأعز عند كل أحد وأولى بالتعظيم. وإذا شئت أن تتيقن فساد مراعاة ما ذكرنا فتأمل أهل كل ملة وكل أمة فإنك تجحدهم مطبقين على أسلافهم وصفتهم بكل فضيلة وبكل خير وذم أسلاف من خالفهم. وتأمل كل قول يقال فقد كان القائلون به في أول أمره قليلا، وأكثر ذلك يرجع إلى واحد ثم كثر أتباعه. وفتش كل قول قديم تجده قد كان ابن ساعة بعد أن لم يكن، ثم مرت عليه الأيام والشهور والسنون والدهور).
ويضيف عبارة قد بلغت الغاية في الرقي : (واعلم أن مراعاة هذه الأمور من ضعف العقل أو قلة العلم ولا تبال أيضا وإن كانوا فضلاء على الحقيقة فقد يخطئ الفاضل ما لم يكن معصوما).
ولهذا الفن آداب , قد دونت في الكتب المختصة به , من أجملها ما قاله العلامة أبو الوليد الباجي أول كتابه 'المنهاج في ترتيب الحجاج' من احترام الخصم والإقبال عليه , وإظهار الإهتمام بما يقول , وعدم تسفيه ما يذهب إليه , واختيار المكان الملائم للجدال : فلا تجادله إلا في مكان ترتاحان فيه , ولا تقاطع حديثه , ولا تقوله ما لم يقله , .. فلتراجع في موطنها.
وفي الفن محاذير ينبغي أن تراعى :
1- لا ينبغي أن تناظر كل من هب ودب , بل حكى البعض الإجماع على حرمة مجادلة من كان دونك في المستوى العلمي , والبعض يأثم من يقوم بهذا العمل . وهذا الشرط مطقي جدا . وأرى -والله أعلم- أنه يستحسن أن تسأل مناظرك عن الكتب التي طالعها في المسألة المتنازع حولها, ف‘ن قدرت أن مطالعاته جيدة و"نوعية" فحيهلا , وإن قال لك : طالعتُ "الورقات" و"كتاب عبد الوهاب خلاف" فاحزم أمتعتك وارحل قبل غروب الشمس.
2- إن كان مناظرك في مستوى جيد : يعادل مستواك أو يقاربه , فينبغي الحذر –كما قال ابن حزم- من "مكالمة من ليس مذهبه إلا المضادة والمخالفة أو الصياح والمغالبة، فلا تتعن به ولو أمكنك صرفه عن ضلالة بالوعظ لكان حسنا، فإن لم يكن فبالزجر والقدع فإن كان ممتنع الجانب فليجتنب كما يجتنب المجنون فأذاه أكثر من أذى المجانين". وغالب من يكثر الكلام ولا يفكر قبل أن يتكلم , فهو من هذا الصنف إلا القليل ممن تمرس في العلم سنين متطاولة , وقليل ما هم.
3- لا تناظر إلا من تتوسم فيه الإنصاف , يقول ابن حزم : " وانفق الزمان الذي يمضي ضياعا في مكالمة من لا يفهم ولا ينصف فيما هو أعود عليك تعش غانما سالما من المغالط".
4- لا تدخل في جدال إلا وقد حفظت حدود المسألة المتنازع فيها , وحفظ الإعتراضات الواردة على الحدود , فغالب الإنقطاع يكون في هذه المسألة , فلا تتهاون-وكتاب البحر المحيط للزركشي نافع في هذا الباب- ! . ولا تقولن إن هذا هذر للجهد والوقت , ولا منفعة فيه : وكما قال شيخ الإسلام الشوكاني : "العلم بكل فن خير من الجهل به" فكيف بك يا من عرض نفسه لسهام المعترضين ! . وتأمل كتب الجدال تجد كثيرا منها قد افتتح كتابه بحدود المهمات من المسائل.
5- لا تبدأ في نقاشك حتى تعرض أصول استدلالك الخاصة بالمسألة , فإن كانت القضية قياسية وكان خصمك من القائلين بالقياس , فالنزاع في صورة المسألة مضيعة للوقت , بل لا تتصور أصلا. وينبغي حينئذ الجدال في أصل الإستنباط! كحجية النسخ والقياس وإجماع كل عصر وحجية العموم ..
6- لا تسمح لخصمك أن ينقلك لمسألة قبل إتمام الأولى , فإن هذا دليل على كونه "يلعب بك" وكن حاسما ! , وغالب من يقوم بهذا الفعل يكون من أهل التخليط ومحاولة ستر الجهل الواقع فيه, وقد تكون عادة وطبعا –كأحد اصدقائي- ولك مثالين :
الأول : رأيت مناظرة بين ظاهري وآخر , وواضح أن الظاهري خبير بالحديث , لكن شخصيته ضعيفة : مستكين منحني الظهر عمدا , وخصمك مرتفع الصوت كثير الحركة , فكان هذا الخير سيد النقاش ينقل صاحبه إلى أي موضوع شاء ! مع أن النقاش الصلي في الغناء والموسيقى فإذا به ينقل الظاهري- لما راى نفسه صفرا في علم الحديث- إلى عقيدة ابن حزم فجارا صاحبنا ! ومن المؤكد أن البحضور ظنوا الظاهري جاهلا متنطعا شاذا !
الثاني : تناظر ظاهريان- وكلاهما من أهل العلم وليسا دخيلين- حول الموسيقى –في منتدى ما- فقال الأول : استدل المانعون بحديث هشام بن عمار وهو ثابت نقلا , ومن أنكر ثبوته فهو مكابر , وقد أثار المجوزون شبها على الدلالة , وذلك بتضعيف دلالة الإقتران..؛ وانطلق يعدو في فثبات قوتها , وكان الواجب على الخصم أن يوقف صاحبه بقوة عند المسألة الأولى ويثبت له ضعف الحديث , جاراه في دلالة الإقتران , فترك موطن قوته ورحل إلى موطن قوة خصمه! . وكنت أريد التدخل وامتنعت لسبب ما ؛ ولو قرأ صاحبنا المهزوم كتاب "مفتاح الوصول" لما ارتكب خطاه القاتل هذا , يقول التلمساني : الصنف الأول –وهو الأصل النقلي : اعلم أن الأصل النقلي يشترط فيه : 1-أن يكون صحيح السند ..2-متضح للدلالة على الحكم المطلوب 3-مستمر الأحكام 4- راجحا على كل ما يعارضه". فهذا ترتيب قوي للنقاش لا ننتقل لمسألة قبل تصفية الأولى , وأجزم أنه لو اتبع هذا المنهج لأفحمه .
ولذلك قال ابن حزم : " تحفظ من الخروج من مسألة إلى مسألة قبل تمام الأولى وبيانها فهذا من فعال أهل الجهل".
7- لا تلزم خصمك بما لا يلتزمه , فتظهر بمظهر الباغي , المجادل بالباطل على سبيل المغالبة , إلا إن كان القول فاحش الغلط ولازمه أوضح من الشمس.
8- لا تظهر الغضب – وأنصح نفسي بهذا وكل ما سبق- فإن الأسرع غضبا أسرع انقطاعا .ومن انقطع فقد جنى على ما ينصره من قول.
وللمنقطع صفات تظهر لك أنه قد انقطع , نلخصها من كتاب التقريب لحد المنطق :
1- أن يقصد إبطال الحق أو التشكك فيه ومن هذا النوع أن يحيل في جواب ما يسأل عنه على أنه ممتنع غير ممكن.
2- أن يستعمل البهت والرقاعة والمجاهرة بالباطل ولا يبالي بتناقض قوله ولا بفساد ما ذهب إليه ومن ذلك أن يحكم بحكم ثم ينقضه.
3-الانتقال من قول وسؤال إلى سؤال على سبيل التخليط لا على سبيل الترك والابانة.
4- أن يستعمل كلاما مستغلقا يظن العاقل انه مملوء حكمة وهو مملوء هذرا.
5- أن يحرج خصمه ويلجئه إلى تكرار بلا زيادة فائدة لأنه يرجع إلى الموضوع الذي طرد عنه ويلوذ حواليه ولا تقوى ولا مزيدا أكثر من وصف قوله بلا حجة.
6- الايهام بالتضاحك والصياح والمحاكاة والتطييب والاستجهال والجفاء وربما بالسب والتكفير واللعن والسفه والقذف بالامهات والآباء وبالحري إن لم يكن لطام وركاض. وأكثر هذه المعاني ليست تكاد تجد في أكثر اهل زماننا غيرها.
موضوع: مسائل في علم الجدل 
الأربعاء 13 يناير 2010, 9:22 pm
