في أولى محاضراته لمادة التجارة الخارجية في كلية التجارة – جامعة حلوان للفصل الدراسي الثاني، فوجئ الطلاب بأستاذهم يكتب التاريخ على السبورة وهو يقول لهم: "كنا في ابتدائي وإعدادي نكتب التاريخين الهجري والميلادي وكنا نكتب "حاجة في النص" للمسلم والمسيحي، في إشارة لعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم". "الآن كل واحد حر في عقيدته وأنا مؤمن جدًا بهذه المقولة". ثم كتب على السبورة عبارة "باسم أمريكا العظمى" بدلاً من "بسم الله الرحمن الرحيم"، وهو ما اعتبره الطلاب مساسًا بالدين الإسلامي، الأمر الذي أثار استياءهم وحفيظتهم. ولما حاولت إحدى الطالبات الاعتراض على الأستاذ رفض اعتراضها وقال: "ديانتي هي الأمريكية الجديدة وأتمنى أن أكون عبدًا لأمريكا" فعندئذ حاول الطلبة الخروج من المحاضرة، لكن الأستاذ أمر عامل المدرج بإغلاق الباب. وبعيدًا عن التصريحات التي أثيرت عن مرض الأستاذ النفسي من عدمه – شفا الله الجميع – إلا أن ما فعله الأستاذ يعكس ظاهرة تتمدد وتمتلئ بها مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلا وهي ظاهرة: الانبهار بحضارة الغرب, وفكر الغرب, وعادات الغرب, وتقاليد الغرب, وتقاليع الغرب....إلخ. وأصبحت هذه الظاهرة من أخطر الأمراض التي تهدد هوية الأمة وثقافتها. وفي البداية دعونا - إنصافًا - نعترف بأن حضارة الغرب ليست شرًا محضًا , كما أنها ليست خيرًا محضًا. فهذه الحضارة بها من المحاسن والإيجابيات ما يجب أن يشمر المجتهدون في النهل منها والعب منها عبًا.
كما وفيها من المخازي والسلبيات ما يجب أن يفر منه كل عاقل أو لبيب. فليس كل إفرازاتها قابلة للأخذ الكامل أو الترك الكامل.ولنفرض أن هناك طبيبًا نجح في إجراء عمليات جراحية معقدة, أو مهندسًا نجح في تصميم عمارة رائعة أو صانعًا نجح في تصميم آلة متقدمة, ومع ذلك فسلوكهم الشخصي فيه اعوجاج واضح. فيهم من يأكل الخنزير , ومنهم من يشرب الخمر ومنهم من يتعامل بالربا, ومنهم من يسير كاشفًا لعورته. فهل إنجازاتهم تمحو خطاياهم؟ أو خطاياهم تمحو إنجازاتهم؟ بالطبع لا. فلا صوابه يصحح خطأه, ولا خطؤه يلغي صوابه.والعقل يقول: نأخذ منه الصواب الذي توصل إليه لأن الحكمة ضالة المؤمن وجدها فهو أحق الناس بها ". وفي الوقت نفسه لا نقلده في خطئه.
أما أن يخرج علينا هؤلاء المنبهرون كل يوم محاولين بث سموم فكرهم المهزوم في الأمة, محاولين تولية وجوه شبابها شطر كل إفرازات الحضارة الغربية. منادين فيهم بأن الحل يكمن في الأخذ عن الحضارة الغربية واقتفاء آثارها في الكبير والصغير, في الصالح والطالح. فهذا هو الخطر بعينه. إن ظاهرة الانبهار بالحضارة الغربية في تمدد. فلقد سبق هذا الأستاذ المنبهر (عبد أمريكا الجديد) أحد كبار المنبهرين السابقين وهو (زكي نجيب محمود) والذي أخذ على عاتقه تشكيل عقلية الأمة صوب أن الحضارة الغربية كل لا يتجزأ. فإما أن نأخذها جملة فيكون الآخذ بها متقدمًا , وإما أن تتركها جملة فيكون تاركها ضعيفًا متخلفًا. حتى أنه كان يرى ضرورة أن نكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون. وقد سبقه (طه حسين) بكلام مماثل. وسبق الجميع (مصطفى كمال أتاتورك) الذي دعا الأتراك أن يأخذوا من الغربيين كل شيء حتى الديدان التي هي في بطونهم.
وما أطول قائمة المنهزمين والمنبهرين بحضارة الغرب اليوم في بلادنا وفي مجتمعاتنا وفي منتدياتنا وفي مؤسساتنا الرسمية. وما أكثر وجودهم. وما أخطر المواقع التي يتبوءونها, والتي منها يطلون علينا ليل نهار يدكون حصون هويتنا, وحضارتنا, وثقافتنا. وهذا يجرنا إلى أن نتساءل: هل الحضارة الغربية بفكرها المادي, وتوجهاتها المبهرة, وإنجازاتها الاستهلاكية هي النموذج الذي يجب أن يُحتذى وتهفو إليه النفوس وتتطلع إليه العقول؟ هل الحضارة الغربية تخرج للبشرية النموذج الحق كما يريده الله وبالتالي نلهث لاقتفاء آثار هذه النماذج؟ هل هذه الحضارة ساهمت في إيجاد حالة من التوازن سواء عند معتنقيها أو مؤيديها؟. هل حياة الإنسان الغربي هي النموذج الذي يجب أن نهرول خلفه ونجاهر بتقليده, ونفاخر باعتناقه؟ إن أية حضارة تهمل الجوانب الأخلاقية والروحية لا قيمة لكل ما تنجزه في ميزان العقلاء.
فالحضارة التي تهمل الجوانب الأخلاقية والروحية إنما تحكم على نفسها بالفناء العاجل أو الآجل. واسألوا التاريخ يخبركم عن كل انهيارات الحضارات الكبرى عبر التاريخ إنما كان مرده إلى إهمال الجوانب الروحية والأخلاقية, فكان التعلق بمباهج الحياة وزخارفها هو القشة التي قسمت ظهر البعير. لقد نسى هؤلاء المنبهرون بحضارة الغرب أن هذه الحضارة أشبه ما تكون بسفينة ضخمة أنيقة جميلة. رتبت فيها أماكن للطعام , وأماكن للنوم, وأماكن للعب, وأماكن للتسلية. وأخذ صانعها يدعو الناس إلى ركوبها. وأخذ يشرح لهم كيف يأكلون , وكيف يشربون, وكيف يرقدون, وكيف يلعبون. حتى إذا سأله أحد الركاب: وإلى أين تذهب بنا هذه السفينة؟ أجاب: لا أدري. اركبوا فقط.!!! لا هدف, لا غاية, لا مقصد, و لا مردود حقيقي يعود على ركاب هذه السفينة في هذه الرحلة غير إرضاء الشهوات والغرائز والملذات. وكل ما بعد ذلك فهو مجهول. وأرجو أن تتخيل معي شخصًا بسيطًا يركب قاربه الصغير رأى هذه السفينة المبهرة. كيف ستكون نظرته إلى هذا البناء المبهر؟ وكيف ستكون نظرته إلى هذا البناء الهائل؟ أكيد أنه سينظر إليه بإعجاب وانبهار لا حدود لهما. انبهار لبنائها, وأضوائها, وفخامتها, وضخامتها, وزخارفها, ومباهجها. ولكن هذا المسكين – وهو يجدف في قاربه الصغير - لا يدري أن هذا البناء المبهر الضخم يسير على غير هدى, وأن مصيره الغرق والدمار لا محالة, و بالتالي هلاك ما فيه ومن فيه. إنه الهلاك , ولكنه الهلاك البطيء.
كذلك نظر بعض المنبهرين من أبناء أمتنا إلى قوة حضارة الغرب المادية والعلمية, والصناعية, والاقتصادية, والعسكرية, والسياسية....إلخ بنفس درجة انبهار راكب القارب الصغير للسفينة العملاقة. ونسى هؤلاء أن قوة الغرب المادية في شتى المناحي هي قوة هائلة بلا هدف ولا مردود حقيقي على أبنائها. وكذلك نظر هؤلاء إلى عاداتهم, وتقاليدهم, ونظمهم, وقوانينهم وظنوا - كراكب القارب الصغير- أن الذي حققته حضارة الغرب هو المعيار الذي يجب أن تقاس به الحياة. والحقيقة ليست هكذا. يقول الأستاذ محمد قطب: "ليس المعيار هو القوة المادية, فالقوة المادية وحدها دون قيم مصاحبه يمكن بل يغلب أن تستخدم أداة للطغيان في الأرض بغير الحق وأداة للفساد والظلم. وليس المعيار هو العمارة المادية للأرض, فهذه العمارة وحدها دون قيم مصاحبة يمكن - بل يغلب - أن تؤدي إلى الترهل والترف من ناحية وإلى الفتن بالحياة الدنيا التي تهبط بالإنسان كلما أوغل فيها حتى نفقده إنسانيته في النهاية. وليست القوة الحربية هي المعيار فهي دائمًا بغير قيم مصاحبة تؤدي إلى الطغيان والتجبر والعدوان على الناس بغير الحق, واستلاب الأرض والأقوات من أصحابها وإذلالهم وتحويلهم خدمًا لأصحاب القوة المعتدين. وليست القوة السياسية هي المعيار فهي وحدها بغير قيم مصاحبة (مثل) القوة الحربية في العدوان على الآخرين "
إن أية حضارة بغير قيم, وبغير أخلاق لا يحق لأي عاقل أن ينظر إليها بأي قدر من الإعجاب والانبهار. لماذا؟ لأنها لا تفعل غير إعلاء الجانب الحيواني على حساب الجانب الإنساني الذي هو أسمى وأجل ما يستحق السعي لتحقيقه" وكل محاولة لإسقاط القيم الخلقية عن أعمال الإنسان مما تصنعه الجاهلية المعاصرة حين تقول: إن السياسة لا علاقة لها بالأخلاق, وأن الاقتصاد لا علاقة له بالأخلاق, وأن العلم لا علاقة له بالأخلاق, وأن الفن لا علاقة له بالأخلاق, وأن علاقة الجنسين لا علاقة له بالأخلاق... كل محاولة من هذا النوع هو اتجاه غير علمي لأنه يخالف أصل الفطرة فضلاً عن إثارة المدمرة في الحياة الإنساني "
ولقد انبهر الكثير من أبناء أمتنا المنهزمين نفسيًا بهذا الفكر المشئوم. وساهم هؤلاء المنبهرون بنقل هذا الانبهار إلي العديد من أجيال الأمة. حتى أصابت مجتمعاتنا لوثة المادية التي هي هواء الغرب الذي يتنفسه كل لحظة. واكتوت أمتنا بنير هذا الفكر المشئوم على يد هؤلاء المنبهرين. وأصبحت مجتمعاتنا كمجتمعاتهم يكثر فيها التاجر المحتكر, والموظف المرتشي, والفقير الحاقد, والعامل المطفف الذي يأخذ حقه ولا يريد أن يعطي ما عليه. كثرت في مجتمعاتنا نماذج الغني البخيل, وصاحب النفوذ المستبد والمسئول الخائن, والخازن السارق, والوزير النفعي. ابتليت أمتنا بالزعيم الأناني الذي لا يخدم إلا نفسه, وحزبه, وشيعته. ابتلينا بالمٌشرع الظالم الذي يسن القوانين الظالمة الجائرة والتشريعات المضللة البعيدة عن شرع الله. ابتلينا بالمخترع أو المكتشف المسرف في عمله دون النظر بمردود عمله على خير الإنسانية. كذلك ابتلينا بالمنفذ القاسي منزوع الرحمة عند تنفيذ الأوامر والقوانين. وبمثل هذه النفسيات المادية تبعث المشكلات الكبرى في المجتمعات, وتصاب الإنسانية بويلاتها كما يقول الشيخ الذنداني: لقد احتك أجدادنا وأسلافنا المسلمون الأوائل بحضارات ومدنيات عديدة مثل الفارسية والرومانية والهندية والإغريقية احتكاكًا قويًا مباشرًا. ومع ذلك احتفظوا بشخصياتهم الإسلامية دون انبهار أو انهزام. ظلوا ثابتين على عقائدهم وشعائرهم وأخلاقهم وشريعتهم. لم يسلب بريق هذه الحضارات ألبابهم, ولم يخطف عقوله, ولم يتخلوا عن هويتهم الإسلامية الأكثر تحضرًا. لقد تعامل أسلافنا الأوائل مع هذه الحضارات بفكر الأٌسود. فالأسد لا يقع على جيفة مهما عصفت به الحاجة ونال منه الجوع. لقد عبوا من هذا الحضارات عبًا. أخذوا منها ما ينفعهم ويلائم أوضاعهم " واستطاعوا- مثلاً - أن ينتفعوا بتراث الإغريق العلمي بعد أن عربوه وهذبوه وأضافوا إليه. وأيد ذلك فقهاؤهم وأئمة دينهم – بل ساهموا فيه. ولم يتوقفوا إلا فيما رأوه معارضًا لعقيدتهم وفكرتهم..المهم أن المسلمين كانوا غاية في المرونة أمام الجانب العلمي بتعبير عصرنا وكذلك الجانب الإداري, والتنظيمي والعمراني والصناعي. لم يجدوا أي حرج ديني في اقتباس ذلك من غيرهم والزيادة والتفوق فيه ما استطاعوا " دون انبهار أو انكسار أو ذوبان للشخصية أو فقدان للهوية.
إن محاربة الانبهار ببريق حضارة الغرب واجب على كل غيور على مستقبل هذه الأمة. كما وأن تبصير كتيبة المنهزمين و المنبهرين من أبناء أمتنا بعظمة حضارتنا الإسلامية وتاريخنا الإسلامي وردهم إليها واجب على كل من يبغي لهذه الأمة أن تعود لتسود. كما وأن معالجة الآثار السلبية التي استشرت في مجتمعاتنا من جراء الانبهار بحضارة الغرب هي التحدي الكبير الذي يقع على عاتق الدعاة والمصلحين. ويبقى بث الأمل في نفوس الأمة, وتقوية ثقتها بنفسها, وبحضارتها, وبثقافتها وبهويتها الإسلامية هو الخطوة الكبيرة صوب تحقيق الإصلاح الحضاري والفكري الذي نأمله لأمتنا الإسلامية والذي أسأل الله أن يكون قريبًا