حياكم الله وبعد
تعد المراثي من أرقى أغراض الشعر العربي لأنها تصور الشعور الإنساني الصافي الغير ملوث بغرض من الأغراض الدنيئة لذا حق لقائلها وللقصيدة أن تخلد في صفحات التاريخ ومن أمثلة ذلك رائعة أبي الحسن الأنباري في رثاء ابن بقية الوزير وقصتها كما رواها صاحب الوافي بالوفيات في ترجمة ابن بقية - والتي سأذكرها هنا -
الوزير ابن بقية
محمد بن محمد بن بقية بالباء الموحدة والقاف على وزن هدية الوزير أبو الطاهر نصير الدولة وزير عز الدولة بختيار بن معز الدولة ابن بويه كان من جلة الوزراء وأكابر الرؤساء وأعيان الكرماء يقال أن راتبه في الشمع كان في كل شهر ألف منا، وكان من أهل أوانا من عمل بغداد، وفي أول أمره توصل إلى أن صار صاحب مطبخ معز الدولة، ثم تنقل في غير ذلك من الخدم ولما مات معز الدولة حسنت حاله عند ولده عز الدولة ورعى له خدمته لأبيه فاستوزره في ذي الحجة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة فقال الناس: من الغضارة إلى الوزارة، وستر عيوب كرمه خلع في عشرين يوماً عشرين ألف خلعة، وقال أبو اسحاق الصابيء: رأيته في ليلة يشرب. كلما لبس خلقعة خلعها على أحد الحاضرين فزادت على مئة فقالت له مغنية: في هذه الخلع زنابير ما تدعك تلبسها فضحك وأمر لها بحقة حلى، ثم أنه قبض عليه لسبب يطور ذكره حاصله أنه حمله
على محاربة ابن عمه عضد الدولة فالتقيا على الأهواز وكسر عز الدولة وفي ذلك يقول أبو عنان الطبيب بالبصرة:
أقام على الأهواز خمسين ليلة *** يدبر أمر الملك حتى تدمرا
فدبر أمراً كان أوله عمى *** وأوسطه بلوى وآخره خرى
ولما قبض عليه بمدينة واسط سمل عيني ولزم بيته إلى أن مات عز الدولة، ولما ملك عضد الدولة بغداد طلبه لما كان يبلغه عنه من الأمور القبيحة منها أنه كان يسميه أبا بكر الغددي تشبيهاً له برجل أشقر أنمش يبيع الغدد للسنانير والظاهر أن اعداءه كانوا يفعلون به ذلك ويفتعلونه فلما حضر ألقاه تحت أرجل الفيلة فلما قتلته صلبه بحضرة البيمارستان العضدي ببغداد وذلك يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة سبع وستين وثلاثمائة وكان عمره قد نيف على الخمسين، ورثاه أبو الحسن محمد بن عمر بن يعقوب الأنباري أحد العدول ببغداد بقصدية لم أر في مصلوب أحسن منها وأولها.
علو في الحياة وفي الممات *** بحق أنت إحدى المعجزات
كان الناس حولك حين قاموا *** وفود نداك أيام الصلات
كأنك قايم فيهم خطيباً *** وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء *** كمدكها إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن *** يضم علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستنابوا *** عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى *** بحفاظ وحراس ثقات
وتشعل عندك النيران ليلاً *** كذلك كنت أيام الحياة
ركب مطية من قبل زيد *** علاها في السنين الماضيات
ولم أر قبل جذعك قط جذعاً *** تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوايب فاستثارت *** فأنت قتيل ثار النايبات
وكنت تجير من صرف الليالي *** فعاد مطالباً لك بالترات
وصير دهرك الإحسان فيه *** إلينا من عظيم السيئات
وكنت لمعشر سعداً فلما *** مضيت تفرقوا بالمنحسات
غليل باطن لك في فؤادي *** يخفف بالدموع الجاريات
ولو أني قدرت على قيام *** بفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافي *** ونحت بها خلاف النايحات
وما لك تربة فأقول نسقي *** لأنك نصب هطل الهاطلات
عليك تحية الرحمن تترى *** برحمات عواد رايحات
وكتبها الشاعر المذكور ورمى بها نسخاً في شوارع بغداد فتداولها الأدباء إلى أن وصل خبرها إلى عضد الدولة وأنشدت بين يديه فتمنى أن يكون هو المصلوب دونه وقال علي بهذا الرجل فطلب سنة كاملة واتصل الخبر بالصاحب ابن عباد فكتب له إلى عضد الدولة بالأمان فحضر إليه فقال له الصاحب أنشدنيها فلما بلغ
ولم أر قبل جذعك قط جذعاً *** تمكن من عناق المكرمات
قام إليه وقبل فاه وأنفذه إلى عضد الدولة فقال له ما حملك على رثاء عدوي قال حقوق وجبت وإياد سلفت فجاش الحزن في قلبي فرثيت وكان بين يديه شموع تزهر فقال هل يحضرك شيء في الشموع فأنشد
كان الشموع وقد أظهرت *** من النار في كل رأس سنانا
أصابع أعدايك الخايفين *** تضرع تطلب منك الأمانا
فخلع عليه واعطاه فرساً وبدرة ولم يزل ابن بقية مصلوباً إلى أن توفى عضد الدولة فأنزل ودفن، فقال ابن الأنباري المذكور يرثيه أيضاً:
لم يلحقوا بك عاراً إذ صلبت بلى *** باؤا بأثمك ثم استرجعوا ندما
وأيقنوا أنهم في فعلهم غلطوا *** وأنهم نصبوا من سودد علما
فاسترجعوك وواروا منك طود على *** بدفنه دفنو الأفضال والكرما
لئن بليت فما يبلي نداك ولا *** ينسى وكم هالك ينسى إذا عد ما
تقاسم الناس حسن الذكر فيك كما *** ما زال مالك بين الناس مقتسما
وللموضوع بقية بحول الله وكرمه[i]