هنا تبدأ الحكاية....
أضناه التعب، وأهلكه الجوع، فصار يمشي بتثاقل يجر جسده جرا ويتأرجح حتى خارت قواه تماما فوقع أرضا ليعانق التراب الذي لطالما احتساه ليقهر جوعه.. قوقع جسده الصغير - الذي لا يزن أكثر من ديك السمّن-، وغط في سبات عميق.. عميق جدا..
كان الشيطان يتنزه في ذات المكان، يقوم برحلة م****ة ويتلاعب بعقول البشر وعقارب الزمان..رأى الكلب مستغرقا بالنوم، اقترب منه فرآه يلوك التراب ويهمهم... ابتسم "عزازيل" ابتسامة ماكرة وقال هامسا: " وليكن!!".. لملم نفسه ودخل في رأس الكلب المتهالك!.. بال في أذنه، ولعب في عقله لعبة خبيثة جعلته يحلم أنه أسد!، ولهشاشة تفكير ذلك الصغير وضيق افقه، استفاق من نومه يزأر معتقدا انه كذلك... هرول إلى حاويات البلدة يركض بسرعة وكأنه يسابق الرياح، وصل المكان المنشود وشرع ينبش الأوساخ ويبعثرها فوق رأسه باحثا عن بقايا شعر لجيفة ما.. حالفه الحظ فوجد خصلة شعر سميكة تعود لحصان مات غدرا... ابتسم ابتسامة عريضة، والتقط الخصلة بأنيابه المتينة!، ولفها حول عنقه، وانطلق مسرعا إلى قمة الجبل وهو يزأر.. في طريقه التقى بمجموعة من الكلاب الأمينة، كانت مستغرقة في بناء كوخ يحميهم من حرّ الصيف، وبرد الشتاء!.. توقف عندهم، وقال ساخرا: " كلاب!"، استدارت الكلاب نحوه، وسألته بفضول: " أيها الكلب!، لماذا تلف رأسك بخصلة شعر حصان؟!"، فأجاب بتبجح: " كلب!!، بل أنا أسد، وشكل الأسد هكذا!!".. أخبره كلب حكيم أنه ليس أكثر من كلب أجرب، مشرد، يمضي حياته غارسا رأسه في القمامة يبحث عن عظمة توقف ضجيج معدته، وأنه إن كان يحلم بالرقي، فعليه أن يحلم حلما يتناسب مع واقعه.. أبى الكلب أن يصدق كلام الكلب الحكيم، وأصر على أنه أسد، واتهم الفقر بحرمانه من كثافة الشعر حول العنق.. أشفقت عليه الكلاب الأمينة، وطالبته أن يستيقظ من ذلك الكابوس، وأن يعود لرشده قبل فوات الأوان.. أرعد الكلب وابلا من الضحكات الهستيرية المجلجلة الساخرة، ورحل عنهم متهما إياهم بالحسد والغيرة!!
سمعت عن هذا الكلب أشياء كثيرة وغريبة حتى تمنيت اللقاء.. .. فاستجاب القدر... وذات مرة، رأيته يقف في مقدمة مجموعة من الكلاب الضالة، كان قد استقطبها ببعض العظام التي التقطها من القمامة، وأوهمها أنها أشبال الأسود، وأن شكلها سيتغير مع تقدم الأيام...أشفقت عليه وقلت له أنه ليس أكثر من كلب.. استشاط غضبا، وصاح: "أنا لست كلبا!، بل أنا الذي يفزع إليه الجميع، ويستغيث بي المنكوب، وتلهج بذكرى السن الطيور وباقي الحيوانات.. أنا ملك الغابة!! أنا..."، قاطعته بفظاظة وقلت : " بل أنت كلب بائس ضال!"، صاح بقوة: " بل أسد، وما يدريك بالأسود!!"، قلت ساخرا: " يا هذا!، وهل يخفى القمر؟!"، ثم استطردت قائلا: " أتدرى أن أسعد الكلاب حالا، وأشرحهم صدرا، هو الذي يرضى بحاله، فلا يحسد الأسود على ما أتاهم الله من قوة، وإنما عنده رسالة من الخير ومثل سامية، يريد إيصال نفعه إلى باقي الكلاب، فإن لم يستطع، كفّ عنهم أذاه".. التفت نحوي غاضبا، مشمرا عن أنيابه الهشة، مستعرضا قواه الخائرة أمام المخدوعين، محاولا إرهابي. وأخذ يزأر ويزأر، حتى اختلط زئيره بالنباح!!.. رمقته بنظرة ساخرة، وتابعت طريقي غير مكترث بما رأيت...
في صباح اليوم التالي، استيقظت من نومي مبكرا، تناولت قطعة من الخبز وهممت لمغادرة منزلي.. وما أن دلفت قدماي عتبة المنزل، حتى رأيته متمددا كجثة هامدة على الدرجة العليا، تفوح منه روائح نتنه، وتسكن الحشرات فرو جسده.. صحت بأعلى صوتي: " أغرب عن وجهي!"، وأردت أن اركله ببطن قدمي، وما كدت أفعل وإذا به يطلق صوتا حزينا وكأنه يستجدي عطفي.. ولا أنكر انه قد نجح في ذلك...
تنازلت عن أنفتي وأدخلته منزلي رغم مظهره المثير للاشمئزاز، ورائحته التي أثارت دوامات خانقة، مضطربة في أمعائي فكدت أتقيأ.. أطعمته ألذ الطعام.. أسقيته الماء النقي، ثم رافقته إلى غرفة النظافة.. وضعته تحت صنبور الماء الساخن، وشرعت أدلك وأفرك جسده ورأسه بأفخر أنواع الصابون.. وما بين الفينة والأخرى أسمعه يطلق أصواتا ناعمة، ناعسة، وكأنه يشكرني أو أنه يتلذذ بنعومة ودفء يدي... كلما سمعت تلك الأصوات انبسطت سرائر وجهي بالابتسامات.. انتهيت من تنظيفه، وشرعت أجفف شعره، وأسرحه.. وما كدت انتهى وإذا به يغرز أنيابه السامة في ظهري ويلوذ بالفرار، صارخا بملء حنجرته: " أنا بشر!.. أنا بشر!"..
اعتقد أنها النهاية
بقلم: سليم دبور - أديب وكاتب سينمائي -فلسطينى