رتب المحدثين و درجاتهم في الحفظ :
منقول من محاضرة للعلامة عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله .
بسم الله الرحمن الرحيم
نقل المناوي في أوائل شرح الشمائل،عن المطرزي قال: "لأهل الحديث مراتب:أولها: الطالب، وهو المبتدي.
ثم المحدث، وهو من تحمل روايته واعتنى بدرايته.
ثم الحافظ، وهو من حفظ مائةألف حديث متناً وإسناداً.
ثم الحجة، وهو من أحاط بثلاثمائة ألف حديث.
ثم الحاكم، وهو من أحاط بجميع الأحاديث المروية" اهـ.
وأهل الحديث لا يعرفون هذه المراتب، ولا يعترفون بها، لأنها تخالف ما اصطلحوا عليه.
فالطالب هو المبتدئ في كل علم، وليس خاصاً بأهل الحديث.
وفي حديث رواه الطبراني بإسناد ضعيف، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((منهومان لا يشبع طالبهما: طالب علم وطالب الدنيا)).
والحجة من مراتب التعديل، لا الحفظ، وهي فوق الثقة، كما نص عليه الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ، و ستأتي عبارته بحول الله.
أما الحاكم، فلا علاقة له بالحفظ ولا التعديل، و إنما هو لقب عائلي لبعض الحفاظ والمحدثين، منهم: أبو أحمد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري الكرابيسي الحافظ، صاحب كتاب الكُنـَى وغيره من المؤلفات، توفي سنة 378 هـ، قال الذهبي: وهذا هو الحاكم الكبير.
ومنهم: أبوعبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم الضبي النيسابوري الحافظ،صاحب كتاب المستدرك وغيره، ويعرف بابن البيع، توفي سنة 405 هـ، وهو تلميذ الحاكم الكبير.
ومنهم: أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حسكان القرشي العامري النيسابوري الحنفي الحافظ، يعرف بابن الحذاء وبالحسكاني، أخذ عن الحاكم صاحب المستدرك، وتوفي بعد سبعين وأربعمائة.
ومنهم: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن الحسن الأسترآباذي المحدث، حدث سنة 432 هـ، ترجم له التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى، ولم يذكر تاريخ وفاته.
والعجيب أن المتأخرين تمالؤوا على نقل كلام المطرزي، تقليداً دون تمحيص.
والواقع أن مراتب الحفظ عند أهل الحديث على الوجه الآتي:
مسند، ثم محدث، ثم مفيد، ثم حافظ، ثم أميرالمؤمنين في الحديث.
فالمسنِد -بكسر النون- من يعنى بالإسناد من حيث اتصاله أو انقطاعه أو تسلسله بصفة معينة، وإن لم يكن له خبرة بالمتون.
وكان شيخنا العلامة الحسيني الطهطاوي الحنفي مسند هذا العصر بدون منازع، له كتاب "المسعى الحميد إلى بيان وتحرير الأسانيد"، حرر الكلام فيه على الأسانيد الموجودة في نحو أربعمائة ثبت، ونبه على أوهام كثيرة، وقعت في فهرس الفهارس، وكان لا يعرف في المتون كثيراً ولا قليلاً." اهـ.
"والمحدِّث من سمع الكتب الستة والموطأ وسنن الدارمي والدارقطني والبيهقي و مستدرك الحاكم ومسند أحمد، وسمع إلى جانب هذه الكتب ألف جزء حديثي، و حفظ جملة مستكثرة من المتون.
و يكفي عن الحفظ في هذا الوقت أن يراجع الجامع الصغير مرات، حتى تعلق أحاديثه بذهنه، بحيث يستحضر حديثاً منها إذا احتاج إليه، ويشتمل الجامع الصغير على نحو عشرة آلاف حديث، فيها الصحيح و الحسن والضعيف والموضوع.
والمفيد رتبة استحدثت في القرن الثالث الهجري. قال الذهبي: فهذه العبارة أول ما استعملت لقباً، في هذا الوقت، قبل الثلاثمائة[1]، والحافظ أعلى من المفيد،في العرف، كما أن الحجة فوق الثقة اهـ.
ثم المفيد من جمع شروط المحدث، وتأهل لأن يفيد الطلبة الذين يحضرون مجالس إملاء الحافظ، فيبلغهم ما لم يسمعوه، ويفهمهم ما لم يفهموه، وذلك بأن يعرف العالي والنازل، والبدل والمصافحة والموافقة، مع مشاركة في معرفة العلل.
والحافظ اختلف في تعريفه، بين مشدد ومخفف.
و أعدل التعريفات فيه أنه من جمع ثلاثة شروط:
حفظ المتون، ولايقل محفوظه عن عشرين ألف حديث.
حفظ أسانيدها، وتميز صحيحها من سقيمها.
معرفة طبقات الرواة وأحوالهم، طبقة بعد طبقة، بحيث يكون من لا يعرفه أقل ممن يعرفه، حتى إذا قال في راوٍ: لا أعرفه، اعتبر ذلك الراوي من المجهولين.
ويتفاوت الحفاظ بتفاوت كثرة محفوظاتهم وقلتها.
وهذه أمثلة عن ذلك:
قال يعقوب الدورقي: كان عند هشيم عشرون ألف حديث.
وقال يحيى بن معين: كانت كتب ابن المبارك التي حدث بها نحو عشرين ألف حديث.
وقال يزيد بنهارون: أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بالإسناد، ولا فخر، وأحفظ للشاميين عشرين ألفاً،لا أسأل عنها.
وقال أيضاً: سمعت حديث الفتون مرة واحدة فحفظته، وأحفظ عشرين ألفاً، فمن شاء فليدخل فيها حرفاً.
وحديث الفتون طويل، يقع في نحو كراسة.
رواه النسائي في السنن الكبرى، وابن أبي حاتم، والطبري في تفسيريهما، وأبويعلى في معجمه، كلهم من طريق يزيد بن هارون، عن أصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به.
قال ابن كثير: وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس مما أبيح له نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره.
وسمعتُ شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك اهـ.
ثم الحافظ نوعان:
حافظ على طريقة الفقهاء، كالطحاوي والبيهقي والباجي وابن العربي المعافري والقاضي عياض والنووي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير.
حافظ على طريقة المحدثين، وهم معظم الحفاظ.
والحافظ على طريقة المحدثين أكثر حفظاً، وأوسع رواية، وأعرف بأحوال الرجال وطبقاتهم، وأدرى بقواعد التصحيح والتضعيف، لتمكنه في معرفة العلل وغرائب الأحاديث." اهـ.
وأمير المؤمنين في الحديث هي الرتبة العليا في الحفظ، لا رتبةَ فوقها.
واستحدثت هذه الرتبة في المائة الثانية للهجرة.
كذلك ليس كل حافظ يستحق لقب أمير المؤمنين في الحديث، وإنما يستحقه من توفرت فيه الشروط الآتية:
1- شدة الإتقان والضبط بنوعيه: ضبط صدر، وضبط كتاب.
2- التبريز في العلل، أو الرجال.
3- أن يؤلف كتاباً له قيمته العلمية، كبير الأثر في موضوعه، أو يتخرج به حفاظ مهرة.
ولعزة اجتماع هذه الشروط في شخص لم ينل هذا اللقب من الحفاظ على كثرتهم إلا نفر قليل منهم، منهم الإمام مالك بن أنس، قال يحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن معين: مالك أمير المؤمنين في الحديث، على أنه لم يكن واسع الحفظ، لأنه لم يرحل إلى البلدان والأقطار، كما رحل غيره من الحفاظ، ولم يبارح المدينة المنورة إلا للحج ثم رجع، وبسبب ذلك فاته حديث كثير.
لكنَّه شديد الإتقان، بالغ التحري، مبرزاً في نقد الرجال.
"ومنهم إمام الحفاظ، وجبل العلم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صاحب الصحيح
ومنهم الإمام الحافظ المتقن أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني
ومنهم شعبة، ومحمد بن إسحاق، وعبد الله بن المبارك، ومحمد بن يحيى الذهلي، وإسحاق بن راهويه، والحافظ ابن حجر، وهو ختامهم،
لم يأتِ بعده من نال هذه الرتبة، وإن كان في تلامذته حفاظ كالسخاوي والديمي والسيوطي، لكنه لم يدركه وإنما تتلمذ على كتبه وانتفع بها كثيراً، وهو يعتبر خاتمة الحفاظ بالمعنى المصطلح عليه عند أهل الحديث، ومن وصف بعده بالحافظ كالسيد مرتضى الزبيدي شارح الإحياء فذلك على سبيل التوسع في العبارة.
انتهى .