ولا شك أن ما كتب عن الحداثة العربية حتى اليوم يشكل كما هائلا من التنظير والارشاد التلقيني، ولعل كثيرا من الكتابات حاولت أن تجعل منها حركة لها بداية واضحة، دون أن تتمكن من تفسير ماهيتها ومن تقديم مفهوم واضح لها. ولقد دخل الى تعريفاتها، عبر اعلانات بلاغية عالية النبرة، تمويه كثير وادعاءات مضللة ومواصفات لم تنطبق في النهاية على محصول حداثي فعلي يمثل تحولا أصيلا، فنيا وفكريا، تقنيا ورؤيويا، في آن، عما سبق.
إزاء كل هذا الضجيج تجد الكتابة الرصينة المستندة الى المنطق الموضوعي المدروس صعوبة في الوصول الى ذهنية لم تزل مفتونة بالتعبير البلاغي وبتأكيداته المهيمنة واصراره الذي لا يكل. غير أن أجيالا قادمة، بعضها لم يولد بعد، سوف ترى الى تمويهات هذه الفترة فتفضح سذاجتها وتناقضاتها واستلا بها الفكري والفني.
ان الحداثة ليست مشروعا يخطط له، ولا هي عملية لها بداية واضحة يمكن متابعة مسيرها. إنها وعي فكري روحي فني يدفع الى التجاوز والتخطي، ولا يجيء نتيجة دعوات واعلانات تفسيرية، بل نتيجة تغير داخلي في النفس إزاء العالم من جهة، ونتيجة توصل الشاعر الى السيطرة على تقنيات العمل الفني وتثويرها من جهة أخرى. وهي تحدث لمبدع هنا ومبدع هناك سبق معاصريه في تمثل روح الحداثة ومواقفها وجرأتها التقنية. وقد حدثت الحداثة العربية على شكل طفرات، وكانت تبدأ كلما اعتمل في أعماق الفرد وعي صادق بروح العصر الذي يعيش فيا وبعالمية هذه الروح، فيتحرر من الروابط القروسطية التي هيمنت على مواقف كثيرة في الثقافة العربية وشكلت جزءا حيويا من مفهومها التقليدي للحياة والسياسة والبطولة والمرأة والتراث، كما يتحرر، على الصعيد التقني من القواعد الشكلية والبنيات الموروثة وعلاقاتها بالزمان والمكان، ومن التعامل التقليدي مع اللغة والصورة والرؤى واللهجة لاسيما اللهجة بجهوريتها وبلاغتها القديمة وتأكيداتها وقدرتها على التأثير العاطفي في المستمعين العرب، حتى اليوم.
ثم إن من أهم إشارات التحول الحداثي في المبدع أن توجهه يكون انقضاضيا يدعو الى الهدم، غير أن الطامحين عندنا جعلوا من إرادة الهدم مبدأ متكاملا شمل جميع عالمهم. ان منطقية القطع مع تقاليد الماضي _ وهو أساسي في الموقف الحداثي _ لا تعني أن كل ما في هذا الماضي كان قبيحا ومترديا في زمنه، بل تعني انه لم يعد له مكان في زمننا، ويصبح القطع معه نوعا من العودة الى أصالة هويتنا المعاصرة. ان إرادة التدمير الكاسح لكل مقومات الماضي وانجازاته كانت عدوانا كبيرا على تاريخ طويل من الجماليات المتطورة والابداع الفكري والأدبي. وقد كان لهذا الموقف التدميري الشامل نتائج شديدة السلبية في الثقافة العربية المعاصرة لا مجال للحديث عنها هنا لأنه سيأخذنا بعيدا عن السياب الذي استهدفت ثورته الحداثية البناء حيث هدمت وقوضت، وهو موقف أخذه من بعده شاعر كبير آخر هو محمود درويش والعدد الأكبر من الشعراء الشبان بعدهما.
وبالنسبة الى تعقيد التحول الحداثي وضرورة اقتران المغامرة التقنية فيه برؤيا المبدع وموقفه الواعي من أوضاع الحياة جميعها، كان من الصعب أن نلقى تحولا حداثيا كاملا عند العدد الأكبر من.رواد الحداثة في الخمسينات والستينات. ان هذا لا يعني أن الإبداع العربي لم يرزق أية تجربة حداثية كاملة في تلك الفترة. ولكني تحدث هنا عن الشعراء الذين تمكنوا من ترسيخ عدد من الأعراف لحداثية في الشعر. فتوفيق صايغ، مثلا كان شاعرا حداثيا بكل معنى الكلمة، وقد نشر مجموعته الأولى (ثلاثون قصيدة ) في أوائل الخمسينات، ومن قبله كان عندنا أو رخان ميسر في سوريا، ومن بعده جاء شعراء أمثال محمد الماغوط وانسي الحاج. الا أن هؤلاء جميعا لم يتمكنوا من ارساء قواعد الحداثة في الشعر العربي الحديث لأنهم كتبوا شعرهم عن طريق النثر في زمن كان الشعر العربي لم يزل مرتبطا، تقنيا ونفسيا، بأسلوب النظم. ولذا فلكي تتمكن أية عناصر حداثية أن تدخل الى الشعر وتصبح عرفا فيه يقتبسا الشعراء الآخرون، كان عليها أن تدخل اليا أولا عن طريق الشعر المنظوم. ولعلها ليست صدفة أن حركة الشعر الحر زامنت هز» التطلعات الحداثية في الشعر في الأربعينات والخمسينات _ فقد كان الشعر العربي يحاول منذ عقود أن يشق طريقه الى الحداثة وأن يتغلب على مناعة الشكل الموروث، أي شكل الشطرين، وهي مناعة ترسخت فيه لأسباب تقنية تحدثت عنها في مناسبات أخرى. ولابد هنا من التنويه بأن التوصل الى حل لهذا الرسوخ في شكل الشطرين قد تم على يدي مسرحي شاعر هو علي أحمد با كثير، ولغاية إنجاح الحوار المسرحي. أي أنه لم يكن في هدايته لغاية تحرير الشعر نفسه. الا أن الشعر العربي استفاد كثيرا منه اذ تحول في الخمسينات الى حركة شعرية جادة وعن طريقه بدأت العناصر الحداثية في الدخول الى الشعر والترسخ فيه.
قبل الحديث عن التجربة الحداثية السيابية أود الحديث عن أمرين أراهما مهمين في الحداثة العربية : الأول هو أن ضرورة اقتران التجربة الفنية التقنية فيها برؤيا متحولة للحياة والإنسان لم تجيء في البدء تلفائية ومتكاملة بالضرورة للمبدع. فلو قابلنا التحول الحداثي بالتحول الرومانسي وجدنا أن الرؤيا الرومانسية (ومثلها الكلاسيكية ) لابد أن تعبر عن نفسها عن طريق تقنية رومانسية بارزة : الأسلوب السيال المنفتح، اللفة العاطفية : لفة الحنين والتشوق والشوق والفرح والحزن، لفة الدهشة والتطلع والصور الغائمة، وبروز العنصر الذاتي العالي وسيطرة الخيال والعاطفة على القصيدة الخ.
هذا الالتحام الطبيعي في عناصر الرومانسية لا يقابله التحام مماثل ل عناصر الحداثة. وقد برهنت بداية الحداثة العربية عندنا عل نوع من التراخي بين التقنية الجمالية والموقف والرؤيا في القصيدة. فقد رأينا في السبعينات عشرات الشعراء العرب الشبان يهجمون بلهفة تكاد تكون طفولية على التجربة التقنية المعقدة في الصورة الشعرية، وهي في أساسها تجربة حداثية متميزة قام بها الشعراء الرواد في الستينات وعلى رأسهم أدونيس، فيملأ ون، أي جيل السبعينات مشات القصائد بهذه المغامرة الصورية المتطرفة التي باعدت بين طرفي التشبيه وقدمت صورا تركيبية لا علاقة لها بتراثهم المنحدر اليهم عن مفهوم الصورة. غير أنهم تفاعلوا معها بألفة وشغف واصرار واختراع واع وكأنها كانت مستقرة في لا وعيهم تنتظر فرصتها للبروز. غير أن ما تحول في هؤلاء الشعراء، أغلبهم، كان تقنياتهم لا مواقفهم ورؤاهم. فقد ولدت فيهم مقدرة جديدة على اقتحام مملكة الصورة الشعرية والتلاعب بها بشجاعة،كما ولدت فيهم جرأة مدهشة على الإيفال في اختراع لفري معقد. ومع أن محاولاتهم لم تنجح الا نادرا في عقد السبعينات فان جرأتهم البالغة حد الهوس تظل أمرا مدهشا. لقد كان التحول بالعنصر الجمالي في الشعر نحو تعقيد لم يسبق من قبل أسهل بكثير من تحقيق تحول روحي ونفسي إزاء العالم، فلم يتواز الأمران.
هذا ينقلنا الى النقطة الثانية التي أود الحديث عنها. أنا لواضح لدينا اذ ندرس هذه الفترة أن جيل الرواد ومن جاء بعدهم مباشرة كانوا مستعدين بشكل لم يسبق للدخول في مناطق شعرية لم يدخل اليها الشعر العربي من قبل. كان هذا نتيجة لتراكم المعرفة الفنية التي ورثها هؤلاء الشعراء كجزء من غريزتهم الشعرية وكانت أدوات الشعر في أواسط القرن العشرين ومن بعده قد أصبحت مرنة وقابلة للتفاعل مع التجارب الجديدة، وكان المناخ الشعري قد تبدل، أولا نتيجة لما أطلقته التجارب السباقة المتلاحقة كالرومانسية والرمزية والسوريالية وتفاعلاتها وتفسير اتها من حساسية جديدة وثانيا نتيجة للخيبة السياسية الصاعقة بعد النكبة التي أفقدت التقا ليد الشعرية الموروثة الكثير من قدسيتها.
هذا التسرب المتلاحق للمعرفة الجمالية، والتحول الخفي في الحساسية الشعرية يفسران لنا مثلا تجربة محمد الما غوط. فهنا نجد أن شاعرا شابا جاء من بلدة صغيرة وخلفية متواضعة ولم يحصل حتى على شهادة الثانوية ولم يعرف لفات أجنبية، استطاع أن يطلع علينا في نهاية الخمسينات بشعر شديد التآلف مع مواقف وجماليات غير مألوفة بعد. فقد كان ديوانه (حزن في ضوء القمر/ 1959) انفصالا كبيرا عن الموروث الشعري وتغييرا مدهشا في استعمال الأدوات الشعرية : من لفة طازجة ذات نبض جديد وصور ساطعة مستمدة من حياة المدينة السورية، وطلاق كامل مع رؤيا الشاعر الرومانسية والقر وسطية لنفسا كبطل منقذ، صاحب الكلمات الصاعقة، وكنبي هاد0ينظر من الأعالي الى الشعب المعذب، وهي رؤيا لم يتحرر منها شعراء مهمون أمثال خليل حاوي وأدونيس. لقد كان وجه الما غوط منذ أول كلمة كتبها وجه الضحية الحداثية التي حاصرتها مثالب القرن العشرين وقد امتلأ وعيها بواقع العذاب الذي عليها أن تواجهه وتحاربه كل يوم إزاء شروع الواقع العربي وطغيانه في منتصف القرن العشرين.
إذن فقد كانت هذه الحساسية الفنية المتقدمة ومن اللحظة الشعرية العربية في الخمسينات جاهزة لتقبل الحداثة الشعرية وتصكها ولو جزئيا إلا أن التعبير عن هذا الوضع جاء عبر صنفين من التجارب، هما كما أسلفت أولا ذلك النوع الانفرادي شبه المنعزل الذي بقي مكنونا على انجازاته دون أن يتمكن في ذلك الزمن المبكر من تعميم أسلوبه ودلالاته الحداثية للجوئه الى الكتابة عن طريق النثر، والثاني هو ذلك الانجاز الحداثي التدريجي الذي كان الصدى العميق لنبض العصر وايقاعه، واستطاع أن يبعث في الخمسينات عصبا قويا من التجديد الحداثي المطرد، فرأينا الشعراء يعتنقون العناصر الحداثية الواحد تلو الآخر، أحيانا كأفراد وأحيانا اعتناقا جماعيا كما حدث في الاستجابة الواعية لاستعمال اسطورة الخصب والحياة بعد الموت في نهاية الخمسينات.
ونجيء الآن الى الإنجازات الحداثية عند السياب. كانت العقبة الكبرى أمام التحول الحداثي العام هو الشكل الشعري الموروث، أي شكل الشطرين كما أسلفت. وقد كان تحرير الشكل مدينا كثيرا لتجربة السياب في هذا المجال. انني آخر من يود أن ينمط حق نازك الملائكة في مجال هذه التجربة الانقلابية، فهي والسياب فرسا رهان فيها وكانت محا ولتهما متزامنة، إلا أن الريادة في حديثنا عن أية تجربة لابد أن تعود الى الشاعر الذي حول التجريب الى تجديد راسخ وعرف شعري يتبعه الآخرون. لقد كان أسلوب نازك ملكها وحدها، عصيا على التقليد، ولم يقترن بمحاولات حداثية واضحة، بينما اهتدى السياب الى الأسلوب الذي أثر في عصب جيله واطلق ابداعاته في هذا المجال - ومن خلال تجاربه الناجحة الموحية في أوزان الشعر المختلفة : الكامل ثم الرجز، ثم الخبب انطلق الشعر الحر ومكن للتجربة الحداثية من النجاح العام عبره.
وهذه هي المأثرة الحداثية السيابية الأولى.
وسوف نرى أن السياب في عقد الخمسينات كان هو الشاعر الذي تم على يديه تأصيل عدد آخر من الأعراف الشعرية الحداثية في الشعر العربي. فهو الرائد الأول الذي أرسى أصول الحداثة عمليا وجعل لها أعرافا ـ فكان ما إن يبدع تجربة جديدة حتى يأخذها عنه بقية الشعراء. وكما قلت من قبل. تم كل هذا له بهدوء ودون ضجيج البيانات البلاغية ودون أن يصاحب ابداعاته أي موقف ادعائي أو قيادي، وأهم من كل هذا دون أن تناقض انجازاته الحداثية في التقنية الشعرية أية مواقف ورؤى تقليدية نحو الحياة والإنسان ونحو دوره كشاعر حداثي.
عندما بدأ السياب يكتب الشعر في الأربعينات كان شعره تقليديا في موقفه وحساسيته ولغته وأسلوبه، شأنه شأن بقية الشعراء الرواد في أوائل انتاجهم. ولا شك أن ناقد الشعر ومؤرخه يستطيع أن يستخلص نتائج فنية مهمة من دراسة شعر هؤلاء الشعراء وملاحظة السرعة التي تغير فيها هذا الشعر من حال الى حال،كما بالسحر.
لعل دراسة السياب للأدب الغربي في نماذجه الحداثية لاسيما شعر إليوت Eliotوايديث ستويل Edith Sitwell كانت هي العنصر الحاسم في تغيره باتجاه حداثة شعرية عربية رائدة ـ ولكن هذا التعليل لا يكفي، فإن انجذاب السياب وشعراء جيله بكل تلك الطواعية والسرعة، الى التجربة الشعرية الثورية كان يدل أيضا، كما أسلفت على تخمر المعرفة الشعرية واستعداد اللحظة الشعرية لتقبل هذا التغيير.
وقد كان الادخال الحداثي المهم الثاني الذي نجح السياب في ترسيخه هو إدخال عنصر الأسطورة الى الشعر.لم تكن فكرة اقتباس الأسطورة الى الشعر جديدة، فقد حاولها الشعراء منذ جبران في العقد الثاني من القرن العشرين مرورا بنسيب عريضة وأبي شادي وشفيق المعلوف وعلي محمود طه وسواهم ــ الا أن هؤلاء إما أنهم لم يستطيعوا ترسيخ هذا العنصر ليصبح تجديدا مستمرا، واما انهم اقتبسوا الأساطير بشكل مسطح خال من الرمز.
أما السياب فقد استعمل أسطورة الخصب والحياة بعد الموت بحذق مرهف في قصيدته المفتاحية "انشودة المطر" بدراسته لقصيدة اليوت الشهيرة "الأرض الخراب ". وكما استعمل إليوت اسطورة الخصب متخفية وراء رموزها، استعملها السياب كذلك، فجعل الماء محور القصيدة، ماء الخليج الذي يحمل الموت للمهاجر وماء المطر الذي يجيء بعد زمن القحط واليباب ليبعث الربيع النضر من قلب الشتاء، إشارة الى امكان انبعاث الحياة الطيبة بعد زمن الموت والاندحار. وقد نشر هذه القصيدة في مجلة (الآداب / 1954) ففتح بها الطريق للسيل المفتعل قليلا لأساطير الانبعاث المتعددة الأسماء. كان السياب في قصيدته تلك قد أطاع حدس الشاعر الأصيل فلم يذكر أسماء الآلهة القديمة في القصيدة ــ الا أن الشعراء من بعده استحضروا في شعرهم ما استطاعوا من الرموز الأسطورية بأسمائها ــ وكان على القاريء في نهاية الخمسينات أن يدرس هذه الأساطير ودلالاتها حتى يستطيع فهمها، لأنها لم تكن حية في الذاكرة الشعبية، كما ينص الاستعمال الأسطوري عادة. وحتى بدر نفسه عاد فضمنها قصائد أخرى. وكان استعمالها في ذلك الوقت دليلا على الأمل الباقي في نفوس الشعراء والمتلقين بإمكان البعث والعودة الى الكرامة والحياة الحرة. غير انها أصبحت زيا، وككل زي في الشعر فإنها انتهت فجأة في مطلع الستينات وكأن الشعر قد أصابه ارهاق جمالي منها. غير أنها نجحت في تأسيس الحس الأسطوري في الشعر وكان ادخال الأسطورة الرمزية بنجاح الى الشعر انجازا حداثيا مهما يدين الى السياب بوجوده الأساسي. فان كانت أسطورة البعث التي تضمنت أسماء الآلهة الفينيقية قد خسرت جاذبيتها سريعا عند الشعراء والقراء حتى أنه لم يعد ممكنا بعد مدة قصيرة من ازدهارها أن يقربها أحد، فان العنصر الأسطوري توطد في الشعر ووجد له تعبيرا قويا عن طريق استعمال الزمن الأسطوري والنماذج العليا. وفي هذا التجديد الآخر كان السياب هو الرائد الأول.
ففي سنة 1956 نشر السياب في( الآداب ) أيضا قصيدته الشهيرة" في المغرب العربي" محتفيا فيها بالثورة الجزائرية التي كانت مشتعلة وقتئذ. كان نفس موضوع البعث والتجديد يهيمن عليها وكانت تتضمن رموزا من النماذج العليا المأخوذة من التاريخ العربي الإسلامي الحي في الذاكرة الشعبية. النبي محمد صلى الله عليه وسلم وجماعة الصحابة والأنصار الذين بشروا بفجر الحضارة العربية. غير أن عظمة هذه الحضارة انهارت بسبب الضعف الداخلي وموت المقاومة والبسالة، وعندها فان الله حجب وجوده عن الناس وماتت فيهم حرارة الإيمان ليعود الانبعاث الى الحياة من جديد بفضل الثورة الجزائرية.
ان قصيدة "في المغرب العربي" قصيدة معقدة شديدة التأثير، وقد أعطت مثالا أولا ناجحا لاستعمال الزمن الأسطوري في الشعر، ولقدرة الحدث على تكرار نفسه في تاريخ الأمة، وقدرة الشخصية التاريخية الحية في ذاكرة الأمة على أن تستلهم من جديد لتعطي المعنى لما يحدث الآن وتولد شعورا قويا بالوحدة وبالارث الروحي المشترك.
وقد كان من حظ الشعر العربي ان المثال الأول على هذا الاستعمال الحداثي الرفيع مثلته قصيدة عامرة من أجود الشعر الحديث. فقد كثرت بعدها نماذج الشعر التي استعملت الزمن الأسطوري لتدل على استمرارية تاريخية فى الأمة، كما استعملت النماذج العليا المأخوذة من التاريخ العربي لتشير الى قدرة هذه النماذج على أن تكرر نفسها في تاريخ الأمة العربية. غير أن عددا وافرا من هذه الرموز التاريخية أختير لسلبيته ليكون هجاء لاذعا للوضع العام، لاسيما بعد نكسة سنة 1967. ولكن رغم المبالغة في تأويل بعض الأمثلة، إلا أن سيطرة الشاعر العربي على هذين العنصرين أصبحت سلاحا شعريا راقيا للتعبير الموارب عن قضايا وجودية وتاريخية كبيرة ــ ولا شك ان اقتباس هذين العنصرين كان مكسبا كبيرا للشعر العربي، يعود في أساسه الى التجربة السيابية ــ وهي المأثرة الحداثية الثالثة للسياب.
ومأثرته الرابعة هي أنه كان رائدا بارزا في استعماله لموضوع المدينة، وكان معه آخرون. ان المدينة رمز حداثي أصيل في الحداثة الغربية. فقد ولدت الحداثة الغربية في زمن اكتساح التصنيع للحياة في الغرب. والصناعة تنشأ في المدن، والأدب الذي نجم عن هذه الفترة في الغرب كان أدبا هجرت فيه الطبيعة وأصبحت أبعاد المكان أبعادا مدنية. فكان الشاعر الحداثي يرى المدينة غولا ومركزا للفساد والظلم والجريمة فوصفها وصفا سلبيا كصحراء مكتظة متحجرة مليئة بالأسى والضجر.
أما المدينة السيابية فهي مكان الغربة الذي وجد فيه الشاعر الريفي نفسه بعد صفاء جيكور. وقد راها سجنا مسورا وبؤرة للمؤسسات الطغيانية بقوتها البوليسية الغشيمة وبجيش المخبرين الذي ترعاه. وهي أيضا مسكن آلاف الفقراء والمنبوذين الذين كانوا يعيشون على هامشها ويعانون الظلم الذي تفرضه على ضحاياها. ولا شك أن اعتناق السياب للماركسية في ذلك الوقت المبكر من حياته جعله أقوى احساسا بالمظالم التي كان يعاني منها فقراء المدينة وبقاياها والمنبوذون والضائعون فيها، فأرسى موضوع المدينة في الشعر العربي كرمز بالغ الأهمية.
ومن أعماق عذابه الشخصي كريفي جاء المدينة ساعيا وراء العلم والرزق يرى السياب نفسه ضائعا مليئا بالغربة، ضحية لعنف المدينة ولا مبالاتها - ومن جديد يبرز وجه الشاعر الحداثي في مأثرة السياب الحداثية الخامسة. وهي مأثرة تتناول الموقف لا التقنية في الشعر الحداثي، موقفا من العالم ورؤياه لنفسه. فهو ليس البطل القائد الممتليء بإرادة الإنذار والتبشير، الذي ينظر من الخارج الى بؤرة العذاب والمعاناة ويدل على منابع الفساد والانهيار في عالم الآخرين، بل هو ضحية مثلهم، وجزء لا يتجزأ من العالم الذي يرفضه ــ موقف حداثي بامتياز.
ترى ما هي الأبعاد الشعرية التي كان سيصل اليها السياب لو لم يهاجمه المرض وهو بعد في أوج تفوقه الإبداعي؟ اني أشعر اذ أدرسه بأني أدرس مشروعا لم يكتمل وبأن الحكم على إنجازاته حكم منقوص لأننا لا نعرف كيف كان شعره سيتجه بعد ديوان (أنشودة المطر) لو لم يضطر الى الاستسلام الى المرض والذكريات والتشوفات الشخصية.
غير أن ما نعرفه هو أنه كان شاعرا ورائدا كبيرا كسب الشعر العربي بوجوده مكسبا لا حدود له وخسر بموته خسارة لا تعوض.
سلمى الخضراء الجيوسي(شاعرة وناقدة واستاذة بجامعة كولومبيا -نيويورك)